أرشيف

«منتدى المستقبل» من دون مستقبل

على الإدارة القادمة النظر في أمر جعل مبادرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الأوسع شبيهة بعملية هيلسينكي أبان الحرب الباردة ما يمكن المجتمع المدني والقطاع الخاص من الارتقاء الى حالة التغيير الحقيقي.

قررت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس عدم المشاركة في الدورة الأخيرة "لمنتدى المستقبل" في "أبو ظبي", ما سيزيد من مشاعر القلق حيال "مبادرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الأوسع" لإدارة الرئيس بوش. ورغم حضور وكيل الوزارة, جون نيغروبونتي, هذه الدورة, التي تعقد سنويا بمشاركة وزراء خارجية دول "مجموعة الثماني" والشرق الأوسط, إلا أن غياب رايس يعتبر مؤشرا على تضاؤل الاهتمام الأمريكي بالإصلاح السياسي والاقتصادي في المنطقة, وربما على استنكاف وزراء آخرين عن حضوره. هذا إضافة إلى احتمال أن يعزز غيابها التكهنات القائمة بأن هذه "المبادرة" لن تعيش بعد هذه الإدارة. فبدلا من أن يترك الرئيس القادم المبادرة تسقط في سلة الإهمال, يتوجب عليه إعادة تجديد وتدعيم هذا الجهد متعدد الأطراف لتسريع الإصلاح المطلوب كحاجة ماسة, ويكتسي هذا المسعى أهمية خاصة بالنسبة للبلدان التي تحاول النجاة من التحدي المنقح لإيران ووكلائها.

كانت الولايات المتحدة قد بدأت إلى هذه "المبادرة", خلال رئاستها لمجموعة الثماني في عام ,2004 كوسيلة تحويل "إستراتيجية الحرية المتقدمة" للرئيس بوش إلى واقع عملي. وقدمت واشنطن ورقة عمل تقترح فيها على دول المجموعة إنشاء "مبادرة الشرق الأوسط الأوسع", و"الاتفاق على أولويات الإصلاح المشتركة في المنطقة, والالتزام "بتدعيم الديمقراطية والإدارة الصحيحة, وبناء مجتمع المعرفة, وتوسيع آفاق الفرص الاقتصادية".

واستخلصت كل واحدة من هذه الأولويات, وبصورة مباشرة, من"تقرير التنمية البشرية في البلدان العربية" ضمن"برنامج التنمية" التابع للأمم المتحدة, لعام ,2002 واشتمل على عدد من مشاريع دول مجموعة الثماني.

وبرغم عدم سهولة تسويق هذه الإستراتيجية, فان ما تسرب من ورقة العمل الأمريكية إلى الصحافة العربية, احدث عاصفة غضب ساخن, وأوشكت المبادرة على الإجهاض. إذ استاءت الحكومات في المنطقة كثيرا من الولايات المتحدة, على اقتراحها القيام بتعاون في المنطقة من دون إسهام من جانب العرب. كما خشي زعماء دول المنطقة أيضا, من أن تكون المبادرة تستهدف إجراء تغيير ناعم للأنظمة القائمة فيها, من حيث أن القطاع الحكومي في المبادرة يلعب دورا حاسما. هذا علاوة على أن أمريكا بدت لهؤلاء الزعماء وقد قوضت الجامعة العربية بإنشاء هيكل تنظيمي بديل.

 

ومن ناحية أخرى, أربكت ورقة العمل الأمريكية الأوروبيين. فواشنطن, من وجهة نظرهم, أخذت عملية التحديث والعصرنة الأوروبية, ذات السنوات العشر من العمر, لبلدان المغرب العربي (مراكش والجزائر وتونس), أمرا مسلما به. أما فكرة التنسيق مع الولايات المتحدة, التي لم تخصص إلا موارد ضئيلة لحل المشكلة, وتتمتع بصورة أسوأ كثيرا من صورتهم فيها, فتشكل لعنة كذلك. وفي نهاية المطاف, فقد تطلب هذا الغضب دبلوماسية أمريكية رفيعة المستوى للحفاظ على المبادرة ولتفضي أخيرا إلى مجرد إذعان ممتعض من جانب مجموعة الثماني وبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

في كانون الأول ,2004 انعقدت الدورة الأولى "لمنتدى المستقبل" في الرباط. في حين انعقدت دورتان سابقتان في: البحرين عام ,2005 والأردن عام ,2006 وبالرغم من إلغاء دورته لعام 2007 في اليمن, في اللحظة الأخيرة لأسباب أمنية, إلا أن الأنشطة المتعلقة بالمبادرة في هذه المنطقة تواصلت في ذلك العام, أثناء رئاسة ألمانيا لمجموعة الثماني.

من جوانب عدة, لم تتعاف "المبادرة" معافاة كاملة أبدا من الوصمة التي دمُغت بها كجهد تقوده إدارة بوش, هذا برغم جهود الولايات المتحدة لتخفيف مشاعر القلق الأولية لدى حكومات دول المنطقة ومجموعة الثماني. فلضمان قيام التعاون وافقت الولايات المتحدة على تغيير اسم المبادرة, والاعتراف بالحاجة إلى "الاستقرار الإقليمي", وبأهمية حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. كما قبلت بالتشديد على الإصلاح الاقتصادي وتقديمه على الإصلاح السياسي. وقد ساعدت هذه التغييرات على تأمين مشاركة فرنسا والعربية السعودية ومصر في الدورة الأولى للمنتدى, لكنها لم تقدم شيئا كبيرا لإنشاء زخم للمبادرة الأوسع. وفي الحقيقة, فمنذ دورة البحرين عام ,2005 بدأ الاهتمام "بالمبادرة" يضمحل على جميع الجبهات, فعلى الدوام تذمرت الحكومات في المنطقة من عدم توفير مجموعة الثماني ودول الخليج النفطية للموارد المالية الكافية, وكان الأوروبيون يحترزون, على مدى السنين, من "التعاون" المغالى فيه, مفضلين بدلا عنه التشديد على مفاهيم محددة, مثل "التتام" بين الدول.

ومع أن واشنطن واصلت دعم "المبادرة", إلا أن جهودها لاقت حماسة فاترة. فبينما قاد المبادرة, في السابق, وكيل وزارة, أصبح يقف على تسيير العملية الآن نائب مساعد وزير. كما أن الاهتمام السياسي على مستوى رفيع انتقل الآن إلى أولويات أخرى, خاصة إلى عملية السلام المستأنفة والبرنامج النووي الإيراني. وإضافة إلى ذلك, فان هياكل تنظيمية جديدة, مثل مجلس التعاون الاقتصادي + 3 + 1 (أي المجلس + مصر والأردن والعراق + الولايات المتحدة), قد حل محل "مبادرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأوسع", كإطار تفضله الوزيرة رايس للمناقشات السياسية والأمنية.

وبصرف النظر عن السلبية وغياب المبادأة المحيطتين بهذا المشروع, فانه ينبغي على الإدارة الأمريكية القادمة, أن تواصل العمل في "المبادرة", لسببين اثنين. الأول, سبب صريح ومباشر, هو أن منتدى شرق أوسطيا, يضم حكومات دول المنطقة ومجموعة الثماني, ويناقش قضايا إصلاح سياسي واقتصادي, أمر حيوي ومهم بالنسبة للأمن الإقليمي على المدى البعيد, وأساسي لهزيمة إيران ووكلائها. فمن شأن "شرق أوسط وشمال إفريقيا أوسع"- في حالة إعادة رسم صورته المتخيلة وتجديد طاقته – أن يخلق قصة بديلة بإظهار مجموعة الثماني وحكومات دول المنطقة تتعاون في التشارك معا لتحقيق منافع لصالح المنطقة.

 

والسبب الثاني, أن "المبادرة" توسع مجال دور الشركات والمنظمات غير الحكومية في عملية الإصلاح. فقد أصرت مجموعة الثماني على ضرورة الإسهام الفعال والنشط للمنظمات غير الحكومية في الاجتماعات الوزارية. الأمر الذي زاد بالنتيجة, عدد هذه المنظمات المعنية على نحو كبير منذ العام 2004; ومن المتوقع أن تشارك 140 منظمة تقريبا في هذه العملية هذا العام.

ومع ذلك, فان صورة "المبادرة" بحاجة إلى تغيير إذا ما أريد لها أن تنجز ما تنطوي عليه. فبرغم الأزمة الاقتصادية الراهنة, على دول الخليج الغنية بالنفط ودول مجموعة الثماني الاستثمار في هذا المشروع على المدى البعيد, كي تبين أن هذه "الورشة من المباحثات" تؤتي نتائج, والآن فان موضوع التطرف – بأن الشراكة مع الغرب لم يتمخض عنها أي شيء غير البيروقراطية – سيزداد ترسخا, وإضافة إلى ذلك, لا بد لهذه المبادرة أن تصبح هيكلا تنظيميا رسميا, وعلى نحو شبيه بنمط "رابطة التعاون الاقتصادي في آسيا والمحيط الهادئ".

وأخيرا, على الإدارة القادمة أن تنظر في أمر جعل مبادرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الأوسع, شبيهة بعملية هيلسينكي إبان الحرب الباردة, ما يمكن المجتمع المدني والقطاع الخاص من الارتقاء إلى حال التغير الحقيقي. فخلال الحرب الباردة. ساعدت ما أسميت "السلة الثالثة" لعملية هيلسينكي, التي كانت مكرسة للتعاون في المجالات الإنسانية, في إضعاف الاستبداد السوفييتي. غير أن ما جذب الاتحاد السوفييتي إلى العملية تمثل في سلال أخرى, والسلة الأمنية منها بخاصة, وهو موضوع لم تتشجع الولايات المتحدة إلى ضمه إلى عملية الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأوسع.

بهذا تكون "المبادرة" قد فشلت في تحقيق ما هو مؤمل منها, وقد تكون دورتها الحالية لهذا العام آخر دوراتها – وهي نهاية قليلون هم الذين سيبكون عليها. ومع هذا, أبدت المبادرة بعض الفائدة, ووفرت منبرا فريدا لمخاطبة العديد من مشاكل المنطقة, إلى هذا, على الرئيس القادم استخدامها بطريقة لم يسبق أبدا لمنشئيها, بمن فيهم الوزيرة رايس, قد طرقوها.0

 

* عضو أسرة معهد واشنطن, ومدير "مشروع فكرة"

 

معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى

 

زر الذهاب إلى الأعلى